منذ صعود أول إنسان للفضاء بنجاح، القرن الماضي، ولا يكف عن التفكير في استعمار الفضاء الخارجي الذي يعد مكانا قد نلجأ إليه وقت الأزمات، لكن تواجهنا صعوبات كثيرة خلال هذه الرحلة، ليس فقط إيجاد حلول لإرسال عدة أطنان إلى الفضاء بشكل ناجح أو الوصول إلى الجهة المراد إليها، بل أيضاً كيف يمكن للإنسان أن يبقى على قيد الحياة إذا وطئت قدماه كوكب أخر، ليس في كيفية تأقلمه في البيئة الجديدة فقط، بل في الأمراض التي يمكن أن تودي بحياته.
في دراسة جديدة نُشرت قبل عدة أيام في مجلة “Science Advances“، قام فريق بحثي في جامعة ولاية كولورادو الأمريكية، بإيجاد احتمالية إصابة رواد الفضاء الذين يقضون أوقاتاً طويلة خارج الأرض بالسرطان بسبب الإشعاعات الكبيرة التي يتعرضون لها. يعد هذا البحث في غاية الأهمية لمستقبل استعمار الفضاء خصوصاً بعد نية عدة شركات ووكالات فضاء لإرسال رحلة مأهولة بالبشر إلى جارنا القريب الأحمر، المريخ. ويجب علينا أن نفهم هذه المخاطر بشكل جيد لنبتكر أليه لتجنبها، لكننا حتى الآن لا نمتلك الرؤية الواضحة لفهمها.
رواد الفضاء يتعرضون للإشعاعات بشكل دائم
الفضاء الخارجي ملئ بإشعاعات من جسيمات عالية طاقة، ونحن على الأرض لا نحتك بها بسبب الغلاف المغناطيسي الذي يحيط بالأرض الذي يمنعها من الوصول إلينا بشكل ضار، لكن في الفضاء الخارجي لا يوجد ما يحمي الرواد من تدفق هذه الجسميات، ما يجعله أمراً صعباً للغاية.
ليس فقط لقوة هذه الجسيمات في التسبب بضرر على الجسم البشري، بل لأننا نعرف القليل عنها، ويقول البروفيسور “مايكل ويل Michael Weil” في حديث مع السماء الليلة، وهو متخصص في علم أحياء السرطان ومشارك في هذا البحث، “مازلنا نحاول البحث بشكل أكبر عن هذه الأشعاعات المجهولة”، ويضيف قائلاً “أنا متردد إلى حد ما في توقع ما إذا كنا سنجد حل لتخفيض المخاطر، لكني متفائل بشكل بسيط”.
كارثة تشرنوبيل
أشارت بعض الأبحاث السابقة على تأثير كارثة تشرنوبيل النووية وكم الأشعاع الصادر منها على البشر. وربما يحاول البعض ربط الكوارث النووية بما سيتعرض له رواد الفضاء في الرحلات الطويلة، فيقول “ويل” للسماء الليلة، “الأضرار التي تتسبب بها أيونات عالية الطاقة HZE تختلف عن الأضرار التي تسببها أشعة جاما الناتجة في الكوارث النووية”، ويستكمل حديثه عن شدة الأضرار الناتجة: “الناجين من الانفجارات النووية تعرضوا لإشعاعات لوقت محدود، بينما رواد الفضاء سيتعرضون لأوقات كبيرة جداً مقارنه بهم، والتعرض لبواقي انتشار الاشعاع بمرور الوقت يختلف عن التعرض للاشعاعات بشكل حاد كما سيحصل لرواد الفضاء”.
فئران التجارب
لنتوقع مدى تأثير هذه الجسيمات على البشر، يجب علينا أولاً أن نجربها على شئ أصغر مثل الفئران، هنا أحضر الفريق عدة فئران وقسموها إلى ثلاث مجموعات، واحدة منها لا تتعرض لإشعاعات، والأخرين يتعرضون لمستوى متغير من الإشعاعات. وجد الفريق أن مستوى الأورام المتسبب بها الأيونات عالية الطاقة HZE مشابهة -إلى حد ما- لنفس الأورام التي تتسبب بها أشعة جاما، وتعد هذه مشكلة كبيرة بسبب الأيونات العالية الطاقة التي تجوب الفضاء.
الأشعة الكونية تسري في الفضاء تقريباً بسرعة الضوء، وتحتوي على عناصر فريدة منها أيونات عالية الطاقة HZE، وتمثل هذه الأيونات 1% فقط من الإشعاعات الكونية، ويحصد البروتونات النصيب الأكبر منها بأكثر من النصف، إلا أن تأثيرها المعلوم -حتى الآن- غاية في الخطورة.
هل اختلاف الجنس يشكل فرقاً؟
تدرس وكالة ناسا حالياً في برنامجها ما هي أفضل مدة يمكن لرائد الفضاء أن يقضيها خارج الكوكب وسط هذه الإشعاعات، لكن هذه النسبة تختلف باختلاف الجنس. وفق الإحصاءات فإن المرأة تتعرض لاحتمالات أكبر لإصابتها بالسرطانات المشعة عن الرجال، ويرجع هذا بسبب حساسية المرأة تجاه بعض أنواع الأورام، وأيضاً لأن المرأة تعيش لفترة أطول. ففي دراسة أصدرها معهد الطب الوقائي في سلوفاكيا عام 2013، عرض أن أحد أهم الأسباب الأساسية التي تجعل المرأة تعيش لفترة أطول، هي أن الرجال يصابون بأمراض القلب والأوعية الدموية أكثر من النساء مما يجعل نسب الوفيات عند الرجال أكبر.
وفي اختبار الفئران، وجد أن أنثى الفأر تعيش أطول ب43 يوماً من الذكور، وأظهرت النتائج فرصة أكبر للإصابة والوفيات نتيجة الاشعاعات في الإناث. وهي نتائج شبيهه بما نتوقع حدوثه على البشر.
تعمل وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” على محاكي يتنبأ بمدى قدرة البشر على السفر في الفضاء وما مدى ضرر هذه الإشعاعات. واستعانت ناسا في هذا المحاكي، الذي بدأ منذ عام 2012، بالبيانات الصحية الخاصة بالناجين من إنفجارات هيروشيما ونجازاكي في الحرب العالمية الثانية، كما تقوم بعدة أبحاث على عدة مواطنين لتستنتج بيانات إحصائية أكثر دقة.
ماذا الآن؟
يقول البروفيسور ويل، أنه يعمل حالياً على مشروع سيساعدنا على فهم هذه الإشعاعات بشكل أكبر، حيث سيقوم بتثبيت أنسجة بشرية خارج سطح مركبة فضائية لتتعرض للأشعة الكونية بشكل مباشر قد يزيح الستار عن الآثار المدمرة التي ستتسبب بها الأشعة على الجسم البشري الذي يستعد لخوض رحلة كبيرة إلى كوكب المريخ على أمل أن يبنوا حضارة يمكننا أن نطلق عليها “حضارة فضائية.
حسب الدراسات، يبدو أن حلم استيطان الكوكب الأحمر مليئاً بالمشاكل الكثيرة، فالكوكب الأحمر لا يمتلك مجال مغناطيسي قوي كالأرض، لذا فمستوى الإشعاعات على سطحه سيكون أكبر مما تتلقاه محطة الفضاء الدولية، تلك التي تحلق على ارتفاع 400 كيلومتر تقريبا. يضيف “مايكل ويل” للسماء الليلة: “مستوى الإشعاعات التي تصل إلى سطح المريخ كبيرة بشكل يومي، لذا الجرعة التي سيتلقاها قاطني الكوكب الأحمر ستكون كبيرة جداً”، وأيضاً من خلال بحث قامت به مركبة “كيوريوسيتي” على سطح المريخ، تبين أن المركبة تستقبل إشعاعات ضعف ما تستقبله الأرض –تقريباً- بشكل سنوي، هذا بجانب مشاكل أخرى تتمثل في الحمولة والوقود ومدى قابلية الجنس البشري على التكيف في مثل ظروف الكوكب الأحمر.
يبدو أنه حلما بعيد المنال مازال.
